الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (44): {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}قلت: {للذين هادوا}: متعلق بيحكم، أو بأنزلنا، أو بهدى ونور، و{الربانيون}: عطف على {النبيون}، وهم العباد والزهاد منهم، والأحبار: علماؤهم، جمع حبر بكسر الحاء وفتحها، وهو أشهر استعمالاً؛ للفرق بينه وبين المداد، و{بما استحفظوا}: سببية متعلق بيحكم، أو بدل من {بها} والعائد إلى ما محذوف، أي: استحفظوه.يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى} أي: ما يهدي إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر، و{نور} تستنير به السرائر، وتشرق به القلوب والضمائر، من الاعتقادات الصحيحة والقعائد الراجحة، والعلوم الدينية والأسرار الربانية. {يحكم بها النبيون} الذين أتوا بعد موسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهم {الذين أسلموا} إي: انقادوا بكليتهم إلى ربهم، ولم تبق بقية لغير محبوبهم، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله، وتعريض باليهود؛ فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم، حيث لم يتصفوا به، يحكم بها {للذين هادوا} وعليهم، وهم اليهود، {و} يحكم بها أيضًا {الربانيون والأحبار} أي: زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم، {بما استُحفظوا من كتاب الله} أي: بسبب أمر الله تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتخريف. {وكانوا عليه شهداء} أي: رقباء، فلا يتركون من يُغيرها أو يحرفها، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا، بخلاف كتابنا، حيث تولى حفظه الحق ربنا، فلا يزال محفوظًا لفظًا ومعنى إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الّذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]. فللَّه الحمد.ثم خاطب الحكام، فقال: {فلا تخشوا الناس واخشون} أي: فلا تداهنوا في حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير، فكل كبير في جانب الحق صغير {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً} أي: لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنًا قليلاً؛ كالرشوة والجاه، {ومن لم يحكم بما أنزل الله} مستهينًا به ومنكرًا له {فأولئك هم الكافرون}؛ لاستهانتهم به.قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود، الكافرون والظالمون والفاسقون، وقد رُوِي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت جماعة: هي عامة، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى، وهو أنسب لسياق الكلام، والله تعالى أعلم.الإشارة: قد وصف الله تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة. قال تعالى: {قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِنّ رَّبِكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174]، فجعل التوراة ظرفًا للهداية والنور، وجعل القرآن نفس النور والهداية. وربانيو هذه الأمة: أولياؤها العارفون بالله، الذين يربون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان، وأحبارها: علماؤها.وقال الورتجبي: الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب، واستقام في شهود جلاله وجماله، صار متصفًا بصفات الله جل جلاله، حاملاً أنوار ذاته، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه، صار ربانيًا، مثل الحديد في النار، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار، فإذا وصل إلى النار واحمر، صار ناريًّا، هكذا شأن العارف، فإذا كان منورًا بتجلي الرب، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب، ثم قال: العارف مخاطب من الله في جمع أنفاسه، وحركاته، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام، وربما يخاطبه بنفسه، ويكلمه بكلامه، ويحدثه بحديثه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ مِنهُم». اهـ..تفسير الآية رقم (45): {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}قلت: من نصب الجميع: فَعَطَفٌ على النفس، و{قصاص}: خبر إن، ومن رفع العين: فيحتمل أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، و{قصاص}: خبر، من عطف الجمل، أو يكون عطفًا على موضع النفس؛ لأن المعنى: قلنا لهم: النفس بالنفس، أو على الضمير المستكن في الخبر، ومن رفع الجروح فقط، ما تقدم في العين.يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكتبنا} على بني إسرائيل، أي: فرضنا وألزمنا عليهم في التوراة {أن النفس} تقتل بالنفس في القتل العمد إن كان المقتول مسلمًا حرًا، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة، ولا حر بعبد، للحديث، {والعينَ} تُفقأ {بالعين}، {والأنفَ} تُجدع {بالأنفِ}، {والأُذنَ} تُصلم {بالأُذنِ}، {والسِّن} تُقلع {بالسن}، {والجروح قصاص}؛ يقتص من الجارح بمثل ما فَعل، إلا ما يخاف منه كالمأمومة، والجائفة، وكسر الفخذ، فيعطي الدية، {فمن تصدق به} أي: بالدم، بأن عَفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص، {فهو كفّارة له} أي للمقتول، يغفر الله ذنوبه ويعظم أجره، أو كفارة للقاتل أو الجارح، يعفو الله بذلك عن القاتل؛ لأن صاحب الحق قد عفا عنه، أو كفارة للعافي؛ لأنه مسامح في حقه، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له، اقتص منه أو عُفي عنه.وفيه دليل على أن الحدود مكفرة لا زواجر، وزعم ابن العربي: أن المقتول يُطالب يوم القيامة، ولو قتل في الدنيا قصاصًا؛ لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شيء، وأن القصاص إنما هو ردع، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شيء، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبة، كما في الحديث: «السيف محاء للخطايا» ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو، قاله ابن حجر، وفي حديث البخاري: «من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، وإن ستره الله فهو في المشيئة».{ومن لم يحكم بما أنزل الله} من القصاص وغيره {فأولئك هم الظالمون}؛ المتجاوزون حدود الله، وما كتب الله على بني إسرائيل هو أيضًا مكتوب علينا، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولا ناسخ هنا، بل قررته السنة والإجماع. والله تعالى أعلم.الإشارة: القصاص مشروع وهو من حقوق النفس؛ لأنها تطلبه تشفيًا وغيظًا، والعفو مطلوب ومرغب فيه، وهو من حقوق الله، هو طالبه منك، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك؟ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم، واتباع أحسن المذاهب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُّمَر: 18]، ومن شأنهم أيضًا: الغيبة عن حظوظ النفس، ولذلك قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)، وقالو أيضًا: (الصوفي كالأرض، يُحرح عليها كل قبيح، وهي تُنبت كلَّ مليح)، ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم. وبالله التوفيق..تفسير الآيات (46- 47): {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}قلت: {قفينا}: اتبعنا، مشتق من القفا؛ كأن مجيء عيسى كان في قفا مجيء النبيين وخلفهم، وحذف المفعول الأول، أي: أتبعناهم، و{بعيسى} مفعول ثاني، وجملة: {فيه هدى ونور}: حال من {الإنجيل}، و{مصدقًا}: عطف عليه.يقول الحقّ جلّ جلاله: وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم {بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه} أي: ما تقدم أمامه {من التوراة} وتصديقه للتوراة؛ إما لكونه مذكورًا فيها ثم ظهر، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكامِ لما فيها، أو لكونه صدَّق بها وعمل بما فيها.{وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور}؛ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية، {ومصدقًا لما بين يديه من التوراة} بتقرير أحكامها، والشهادة على صحتها، {وهدى وموعظة للمتقين} أي: وإرشادًا وتذكيرًا للمتقين؛ لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير، دون المنهمكين في الغفلة، قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون.ثم أمر الله أهل الإنجيل بالحكم بما فيه، فقال: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} من الأحكام، وقرأ حمزة: {وليحكم} بلام الجر؛ أي: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}؛ الخارجون عن طاعة الحق. قال البيضاوي: والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليه السلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع، وحمَلها على: وليحكموا بما أنزل الله، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر. اهـ.الإشارة: قد جمع الله في هذه الأمة المحمدية ما افترق في غيرها في الأزمنة المتقدمة، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرّسل، كلما مات عالم أو ولي قفاه الله بآخر، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية، وأما الأولياء رضي الله عنهم، فأحوالهم مختلفة، فمنهم من يكون على قدم نوح عليه السلام في القوة والشدة، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليه السلام في الحنانة والشفقة. ومنهم من يكون على قدم موسى عليه السلام في القوة أيضًا، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع إلى الله تعالى، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق في غيره، وكل واحد يؤتيه الله نورًا في الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة، وهدى في الظاهر يصلح به الظواهر في الشريعة. والله تعالى أعلم..تفسير الآية رقم (48): {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}قلت: {مهيمنًا} أي: شاهدًا، والشرعة والمنهاج: قال ابن عطية: معناهما واحد، وقال ابن عباس: أي سبيلاً وسنة. قلت: والظاهر: أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة، وهي التي تًصلح الظواهر، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية، وهي التي تصلح الضمائر، وهو مضمن علم التصوف.يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأنزلنا إليك} يا محمد {الكتاب} أي: القرآن ملتبسًا {بالحق مصدقًا لما بين يديه} من جنس الكتاب، أي: مصدقًا لما تقدمه من الكتب، بموافقته لهم في الأخبار والتوحيد، {ومهيمنًا عليه} أي: شاهدًا عليه بالصحة، أو راقبًا عليه من التغيير في المعنى، {فاحكم بينهم بما أنزل الله} إليك {ولا تتبع أهواءهم} منحرفًا عما جاءك من الحق إلى ما يشتهونه، لكل نبي {جعلنا منكم شرعة} ظاهرة يصلح بها الظواهر، {ومنهاجًا} أي: طريقًا واضحًا يسلك منها إلى معرفة الحق، وهو ما يتعلق بإصلاح السرائر، واستُدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة.{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} أي: جماعة واحدة متفقة على دين واحد، {ولكن} عدد الشرائع وخالف بينها {ليبلوكم} أي: يختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، أيكم ينقاد، ويخضع للحق أينما ظهر، فإن اختلاف الأحوال وتنقلات الأطوار فيه يظهر الإقرار والإنكار، {فاستبقوا الخيرات} أي: بادروا إلى الانقياد إلى الطاعات واتباع الحق والخضوع لمن جاء به أينما ظهر، انتهازًا للفرصة، وحيَازة لفضل السبق والتقدم، {إلى الله مرجعكم جميعًا} فيظهر السابقون من المقصرين، {فينبئكم} أي: يخبركم {بما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والمبادر والمقصر، واختلاف الشرائع إنما هي باعتبار الفروع، وأما الأصول كالتوحيد والإيمان بالرّسل، والبعث، وغير ذلك من القواعد الأصولية، فهي متفقةح قال عليه الصلاة والسلام: «نحنُ أبناء علات، أمهاتُنا شَتَّى وأبونا واحد» يعني التوحيد. والله تعالى أعلم.الإشارة: اعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام جمع الله له ما افترق في غيره، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة، وكتابُه جمع ما في الكتب كلها فهو شاهد عليها، وشريعته جمعت الشرائع كلها، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء.واعلم أن الحق جل جلاله جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك، العصر، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجًا بحسب الحكمة، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين، فهو جاهل بسلوك الطريق، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد الله الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار، فكل نبي وولي يبعثه الله تعالى بخرق عوائد زمانه، وهي مختلفة جدَا، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد، وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى الله. وهكذا فليقس ما لم يقل. والله تعالى أعلم..تفسير الآيات (49- 50): {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}قلت: {وأن احكم}: عطف على الكتاب، أي: وأنزلنا إليكم الكتاب والحكم بينهم بما أنزل الله، أو على الحق، أي: أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل الله، و{أن يفتنوك}: بدل اشتمال من الضمير، أي: احذر فتنتهم، واللام في قوله: {لقوم}: للبيان: أي: هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله.يقول الحقّ جلّ جلاله: لرسوله عليه الصلاة والسلام: {و} أمرناك {أن اُحكم بينهم} أي: بين اليهود {بما أنزل الله}، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم، وقيل: لا، والمعنى أنت مخير، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله {ولا تتبع أهواءهم} الباطلة، التي أرادوا أن يفتنوك بها، {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، فيصرفوك عن الحكم به.رُوِي أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردَّهم، فنزلت الآية.قال تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام: {فإن تولوا} عن الإيمان، بل وأعرضوا عن اتباعك، {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} في الدنيا، ويدخر جُلَّها للآخرة، وقد أنجز الله وعده، فأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبا نساءهم وذراريهم، وباعهم في الأسواق، وفتح خيبر، وضرب عليه الجزية، {وإنَّ كثيرًا من الناس لفاسقون}؛ خارجون عن طاعة الله ورسوله، {أفحكم الجاهلية يبغون} أي: يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، {ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} أي: لا أحد أحسن حكمًا من الله تعالى عند أهل الإيقان؛ لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله عز وجل.الإشارة: إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية، والتبس عليك أمرهم، ولم تدر أيهما تتبع؟ فاحكم بينهم بالكتاب والسنة، فمن وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة، فانظر أثقلهم على النفس، فإنه لا يثقل عليها إلا ما هو حق، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار، فإن متابعة الهوى يُعمي القلب عن مطالعة الأسرار، إلا إن وافق السُّنة.قيل لعمرَ بن عبد العزيز: ما ألذُ الأشياءِ عندك؟ قال: حق وافق هواي. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤمِنُ أُحَدُكُم حَتَّى يكُون هواه تابعًا لما جئتُ به»، وفي الحِكَم: (يُخاف عليك أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخاف عليك من غَلِبَةِ الهوى عليك).فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص، فليعلم أن الله أراد أن يعاقبه ببعض سواء أدبه، حتى يخرج عن منهاج السالكين، والعياذ بالله، أو يؤدبه في الدنيا إن كان متوجهًا إليه.
|